recent

أحدث القضايا العمالية

recent
جاري التحميل ...

التضخم : كيف يشعر به المواطن قبل أن تكتبه الأرقام


التضخم : كيف يشعر به المواطن قبل أن تكتبه الأرقام


د. مثقال القرالة
10/12/2025

بل أن تهبط الأرقام على الورق كأحجار باردة، وقبل أن تتحول حياة الناس إلى أعمدة في جداول الإحصاءات الرسمية، يكون التضخم قد طرق أبواب البيوت الأردنية بلا استئذان، ودخل إلى المطابخ قبل أن يدخل إلى بيانات وزارة المالية، وتربع على موائد العائلات قبل أن يُرصد في مؤشرات الأسعار. إن التضخم، في حقيقته، ليس حدثاً اقتصادياً يبدأ من شاشة الحاسوب، بل زلزالاً صامتاً يبدأ من السوق، يهز جيوب الناس قبل أن يهز وعي الاقتصاديين، ويعيد صياغة الحياة اليومية ببطء لا يرحم. هو كالنار تحت الرماد؛ لا تراه في البداية، لكنك تشم رائحته في أكياس الخبز التي صارت أخف وزناً، وفي لتر الزيت الذي تقلص حجمه دون أن يتقلص ثمنه، وفي الفاتورة التي تكبر أرقامها بينما تقل قدرتك على الدفع. إنه زحف بطيء، لكنه حتمي، يشبه البحر حين يتقدم نحو الشاطئ بلا موج صاخب، حتى تكتشف فجأة أن المياه وصلت إلى أعتاب بيتك.
المواطن الأردني لا يحتاج إلى خبر عاجل ليعرف أن التضخم قد ارتفع؛ فهو يقرأ ذلك في نظرات الباعة، وفي صمت المشتري أمام رفوف السوبرماركت، وفي ابتسامة شاحبة تتبعها جملة مألوفة: "الأسعار ارتفعت شوي". يعرفه حين تقل كمية الخضار التي يحملها من السوق، وحين يضطر لحذف صنف من قائمة المشتريات، وحين يجد نفسه يعيد ترتيب أولويات الإنفاق وكأنه خبير موازنة في أزمة وطنية، لا ربّ أسرة عادية. في هذه اللحظة، تتحول المصطلحات الاقتصادية الكبرى مثل "القوة الشرائية" و"مؤشر الأسعار" و"التضخم السنوي" من مفاهيم أكاديمية إلى جراح مفتوحة في ميزانية الأسرة. لم يعد التضخم مجرد نسبة مئوية يعلنها البنك المركزي أو دائرة الإحصاءات، بل أصبح خصماً شرساً يقتطع من مستوى المعيشة، ويقلّص أحلام الادخار، ويجعل المستقبل يبدو أثقل من الحاضر.
لكن المعضلة تكمن في أن الأرقام الرسمية كثيراً ما تُخفي حرارة المشهد الحقيقي. فـ"سلة السلع" التي يعتمد عليها الإحصاء قد لا تعكس السلة الحقيقية التي يملؤها المواطن كل أسبوع. الأرقام تتعامل مع المتوسطات، أما المواطن فيتعامل مع الحقيقة الكاملة؛ مع الارتفاع الفعلي في السوق، ومع تسارع الأسعار الذي يسبق أي إعلان رسمي. وهنا تظهر الفجوة بين الاقتصاد كعلم، والاقتصاد كمعيشة. فالتضخم ليس مجرد ظاهرة مالية، بل قضية تمس الأمن الاجتماعي والسياسي. إنه امتحان لقدرة الدولة على حماية مواطنيها من الانزلاق نحو اليأس الاقتصادي، وعلى ابتكار سياسات تحافظ على قيمة الدينار في أيدي الناس، لا في تقارير البنوك فقط. وإذا بقيت المواجهة حبيسة المؤتمرات الصحفية، فإن الفجوة بين الشارع والحكومة ستتسع، والثقة ستتآكل كما تتآكل القوة الشرائية.
إن المعركة ضد التضخم في الأردن ليست معركة أرقام، بل معركة حياة. هي معركة كرامة المواطن أمام سلعة تزداد غلاءً، وأمام خدمة ترتفع تكلفتها، وأمام حلم يتضاءل أفقه. ومن يظن أن الأمر يمكن احتواؤه بجدول أو بيان، يغفل أن التضخم إذا تُرك دون رد فعل حقيقي، فإنه يتحول من مشكلة اقتصادية إلى أزمة مجتمعية، ومن أزمة مجتمعية إلى تهديد لاستقرار كل منظومة العمل والإنتاج. الحل يبدأ من الشارع، لا من قاعات الاجتماعات المغلقة. يبدأ من سياسات جريئة تكبح جماح الأسعار، وتدعم الفئات الأضعف، وتربط الأجر بواقع السوق لا بخيالات الميزانية. يبدأ من قرار يعلن أن الأرقام ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لحماية الإنسان الذي يصنع الاقتصاد، ويُبقي عجلة الوطن تدور رغم الضغوط. فإذا التقت الإرادة السياسية بوعي اقتصادي حقيقي، يمكن عندها فقط أن تتحول لغة التضخم من جرس إنذار، إلى شهادة على قدرة الأردن على الصمود في وجه أعتى العواصف المالية، وتحويل الأزمات إلى فرص، والخوف إلى ثقة، والتراجع إلى نهضة.

(وكالة أنباء سرايا )

Post a Comment

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

رنان

2020